كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واللبوس اللباس يقال: البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال: {فهل أنتم شاكرون} قال علماء المعاني: هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا فهل أنتم تشكرون إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف اي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا أفأنتم شاكرون لأنه وإن كان ينبئ عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن هل ادعى للفعل من الهمزة، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلوم عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال: {ولسليمان} أي وسخرنا له {الريح} حال كونها {عاصفة} ولا ينافي هذا قوله في {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} [ص: 36] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها عاصفة تحمل كرسيه من اصطخر إلى الشام، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفًا لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله: {وكنا بكل شيء عالمين} إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم. قوله: {ومن الشياطين} أي سخرنا من الشياطين {من يغوصون له} ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ ومن موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر {ويعملون عملًا دون ذلك} أي متجاوزًا ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء: الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله: {وكنا لهم حافظين} أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره: يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قبل الجبائي: كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها.
واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت: إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلًا عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لَكِن لم قلت: إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لابد من تكثيف أجسامهم فمن اين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس. قلنا: إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين.
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلًا. عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبيًّا، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين اخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال: فسمع غبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك ايوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال ايوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارًا من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائمًا يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا ايوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب: إنها ماله إذا شاء نزعه.
فقال إبليس: إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئًا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، خرجت من بطن أمي عريانًا وأضجع في التراب عريانًا وأحشر إلى الله عريانًا، ولو علم الله عريانًا، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرًا لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت شهيدًا وأوجر فيك. فرجع غبليس إلى أصحابه خاسئًا فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتًا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها، فخرج إبليس متمثلًا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغرًا فقال له عفريت آخر: عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحًا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث والثيران، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به ايوب فرد عليه مثل الرد الأول، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئًا فشيئًا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال: إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله: انطلق فقد سلطتك، فأتى أولاد ايوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلًا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على راهـ. فاغتنم ذلك إبليس، ثم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك.
فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشًا، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهبًا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثًا متضرعًا إليه قائلًا: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني.
ألم أكن للغريب دارًا وللمسكين قرارًا ولليتيم وليًا وللأرملة قيمًا. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضًا وسلطت على ما لو سطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسال اللقمة فيطعمني من يمن بها على ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال: ولو كان ذلك صحيحًا لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين. قلت: إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة: من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعًا إذا كان في شكواه راضيًا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. الم تسمع قول يعقوب عليه السلام: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86].
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله: {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال. قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب. يحكى أن عجوزًا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها حبًا. وفي قوله: {وأنت أرحم الراحمين} رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه، ولا لمضرة يدفعها عنه، ولا يطلب شيئًا، ولا يجلب مدحًا وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضًا تتوقف على داعية يخلقها الله فيه، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لابد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله ايوب؛ فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحًا فقالا: لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما فقال: اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجدًّا وقال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به». وقال الحسن: مكث ايوب بعدما ألقي على الَكِناسة سبع سنين وأشهرًا ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظبًا على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعًا من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلاّ صبرًا وحمدًا لله تعالى. فقالوا له: أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن: فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال: فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال أيوب: أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت: الله. قال: كم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة!
والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام على أن أذوق بعد هذا شيئًا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر ايوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجدًّا وقال: {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك {اركض برجلك} [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحًا، وعاد غلى شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادًا من ذهب فجعل يضكه بيده فأوحي إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولَكِنها بركتك فمن يشبع منها.
قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الَكِناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الَكِناسة. فقال: تعرفينه إذا رايته؟ قالت: وهل يخفى على أحد يراه. فتبسم قائلًا: أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك. الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعامًا ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وايضًا قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى ارد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال: أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك {مسني الضر} يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له. الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي: إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال: تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم: إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت غلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزًا ولحمًا فقال أيوب: من أين هذا؟ قالت: كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئًا فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت: كل فإنه حلال. فقال: لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال: {رب إني مسني الضر}. والرواية الخامسة قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها غلى موضعها وقال: قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال: {مسني الضر} فأوحى الله إليه: لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبرًا لما صبرت.
واعلم أن مس الضر هاهنا مطلق إلا أنه ورد في ص مقيدًا وذلك قوله: {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} [ص: 41] فصح أن يكون سندًا لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والاسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلهًا. وأيضًا إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم} [إبراهيم: 22] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولاسيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه {فكشفنا ما به من ضر} مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان: الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي: إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث: ارسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال: أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنًا له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله: {رحمة من عندنا} لأيوب {وذكرى} لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما {للعابدين} لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يثابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة {رحمة من عندنا} وقال في ص {رحمة منا} [ص: 43] لأنه بالغ هاهنا في الدعاء بزيادة قوله: {وأنت أرحم الراحمين} فبالغ في الاستجابة لأن لفظ عند يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.